شكل اقتحام المتظاهرين التابعين لرجل الدين الشيعي السيد مقتدى الصدر لمقار الاحزاب والميليشيات، في مدينة العمارة جنوب العراق، المشهد الاخير في الصراع الشيعي الشيعي المتصاعد. وكان يمكن أن يكون هذا الاقتحام مجرد حلقة إضافية في سياق هذا الصراع، لولا التهديدات التي صدرت بعيد ذلك عن الجهات التي تم اقتحام مقراتها، وعن حلفائهم، والتي يبلغ عددها 16 بين تنظيم سياسي وميليشيا، من بينها حزب الدعوة والمجلس الاعلى، فضلا عن ميليشيا بدر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وكتائب الامام علي، بان المجتمعين يشكلون جبهة لمقاتلة الخارجين عن القانون. وتعبير الخارجين عن القانون سبق له ان استخدم لتوصيف التيار الصدري بين عامي 2007 و2008 في إطار المواجهة المسلحة بين رئيس مجلس الوزراء السابق نوري المالكي والتيار الصدري في بغداد والبصرة وكربلاء.
بعد الاقتحام الاول لمتظاهري التيار الصدري المنطقة الخضراء نهاية نيسان/ أبريل، والتي فسرت على أنها محاولة من التيار لاستثمار قدرته على التحشيد في إعادة رسم علاقات القوة الشيعية الشيعية لصالحه، بدا وكأن مواجهة كادت ان تحدث بين التيار الصدر ومليشيا سرايا السلام التابعة له، مع ميليشيا سرايا الخراساني التي نزلت إلى الشارع يومها! وفي الاقتحام الثاني للمنطقة الخضراء في 20 أيار/ مايو كانت هناك اتهامات صريحة لميليشيا بدر بأنها كانت وراء إطلاق النار على المتظاهرين! وفي الحادثة الأخيرة، تردد تهديد صريح باللجوء إلى القتال لمواجهة التيار الصدري!
فما الذي يمكن توقعه في ظل دعوة السيد مقتدى الصدر إلى وقف التظاهرات مؤقتا مع الدعوة إلى مظاهرة مليونيه نهاية رمضان؟
هل يمكن أن يقود ذلك إلى صراع شيعي شيعي مفتوح، قد يكون موجها في البداية إلى التيار الصدر لتحييده، إذا افترضنا حدوث ذلك فانه سيكون سابقة لاستخدام السلاح لإعادة رسم علاقات القوة بين الأطراف الشيعية المتصارعة؟ أم أن العاملين الفاعلين، وهما إيران والسيد السيستاني سيكون لهما الدور الحاسم في منع ذلك؟ أغلب الظن أن الفاعلين الأخيرين لن يسمحا بانزلاق الأمور إلى مواجهة مفتوحة، وهما يمتلكان القدرة على منع ذلك إلى حد كبير، ولكن لا ضامن على عدم حدوث مواجهات محدودة، سواء عبر القوات الامنية، أو عبر الميليشيات، لإرسال رسالة واضحة للتيار الصدري بأن محاولات استثمار حركة الاحتجاج، لن تنجح في النهاية في تغيير علاقات القوة الشيعية الشيعية القائمة.
لقد حرصت إيران من جهة، والمرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني، طوال سنوات ما بعد الاحتلال، على الابقاء على الكيان الشيعي في العراق موحدا قدر الإمكان، على الرغم من الصراعات العقائدية والأيديولوجية والعائلية البينية بين مختلف الأحزاب والتنظيمات المشكلة لهذا الكيان، وذلك من أجل ضمان هيمنة شيعية على الدولة. وقد كان ما سمي بالبيت الشيعي، ثم الائتلاف العراقي الموحد محطتين مهمتين في هذا السياق. ولكن الامور بدأت بالتصدع مع انتخابات مجلس النواب لعام 2010، عندما دخلت هذه الأحزاب الانتخابات منقسمة على كتلتين، رغم الضغط الإيراني المباشر والصريح، ورغم دعوات السيد السيستاني للحفاظ على وحدتها، الاولى تحت اسم «دولة القانون» بزعامة المالكي، والثانية تحت اسم «الائتلاف الوطني العراقي» الذي ضم التيار الصدري والمجلس الاعلى الاسلامي. هذا الانقسام أتاح للقائمة العراقية، وهي تحالف بين التنظيمات السنية وقائمة اياد علاوي العابرة للطائفية، أن يحقق المركز الأول في هذه الانتخابات بحصولها على 91 مقعدا. وهو ما أضطر المالكي حينها إلى الضغط على المحكمة الاتحادية من اجل انتزاع قرار مسيس بتفسير مصطلح «الكتلة النيابية الأكثر عددا» الواردة في المادة 76 من الدستور العراقي بانها تعني الكتلة التي تتشكل في مجلس النواب بعد الانتخابات، وليس الكتلة الفائزة بالعدد الاكبر من مقاعد مجلس النواب في الانتخابات! وهو ما دفع القائمتين الشيعيتين إلى الائتلاف ثانية من أجل ضمان منصب رئاسة مجلس الوزراء واستمرار الهيمنة. وعلى الرغم من هذا الائتلاف الشكلي، فقد عطل الصراع البيني حول الجهة التي تتولى هذا المنصب، تشكيل الحكومة لمدة تزيد عن ستة أشهر، إلى أن استطاع الضغط الإيراني على إجبار السيد مقتدى الصدر على القبول بمنح المالكي ولاية ثانية، وهو ما اعترف به السيد مقتدى الصدر نفسه في حينه، على الرغم من ممانعة المجلس الاعلى لذلك.
لكن الممارسات الاحتكارية للسلطة التي اتبعها المالكي في ولايته الثانية، ومحاولاته المنهجية لفرض منطق الحزب الواحد، وهو حزب الدعوة، على بنية الدولة، دفع السيد مقتدى الصدر بعد عامين إلى الدخول في ائتلاف عابر للطائفية يتشكل للمرة الأولى في محاولة لإزاحة المالكي من السلطة عبر تشكيل كتلة برلمانية تحظى بالأغلبية المطلقة قادرة على سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء.
وعلى الرغم من فشل هذه المحاولة، إلا أنها كانت مرحلة مفصلية في إطار الصراع الشيعي الشيعي الذي بدأ يتصاعد، على الرغم من محاولات الراعيين الإيراني والسيد السيستاني في الابقاء على الوحدة الشكلية للكيان الشيعي.
لكن المحطة الاهم في التشظي، جاءت في عام 2014، ففي هذه الانتخابات، فشلت جميع محاولات الوصول إلى كيان شيعي موحد، بل فشلت محاولات انتاج كتلتين رئيستين كما كان عليه الامر في انتخابات 2010. وقد جاءت نتائج الانتخابات لتكرس هذا التشظي، حين رشحت عن هذه الانتخابات ستة أطراف شيعية خالصة فائزة بمقاعد في مجلس النواب، حينها اضطر الجميع للذهاب إلى تحالف شكلي لضمان منصب رئيس مجلس الوزراء، إلا أن الخلافات حول الشخصية التي تتولى هذا المنصب، ظلت قائمة، وكان الدافع الوحيد لإعادة توحيد المتصارعين هذه المرة هو ابعاد المالكي عن الولاية الثالثة بعد فوز قائمته الانتخابية بـ 92 مقعدا. فقد عمد الصدريون والمجلس الأعلى، وبدعم صريح ومباشر من السيد السيستاني، وصمت إيراني، إلى إحداث انشقاق داخل حزب الدعوة، مكن الجميع من الاتفاق على مرشح جديد من الحزب نفسه، فكان السيد حيدر العبادي. ولم يكن ذلك ممكنا لولا ظهور داعش وسيطرة التنظيم على أكثر من ثلث مساحة العراق، بعد سيطرته على الموصل في حزيران/يونيو من العام نفسه، فضلا عن اعتراض السيد السيستاني على الولاية الثالثة للمالكي الذي فرض على الإيرانيين القبول بإزاحة المالكي. وعلى الرغم من مقاومة المالكي لهذا الأمر في البداية، إلا ان القبول الإيراني بهذه الصفقة اضطره سريعا إلى القبول بالأمر الواقع.
ان التشظي في العلاقات الشيعية الشيعية، والصعود غير المسبوق للمليشيات اللاعب الرئيس اليوم بسبب قوتها العسكرية، وارتباطها المباشر بإيران، أضاف فواعل سياسيين جدد بقوة السلاح هذه المرة، زاد من تعقيدات المشهد الشيعي، وكان الصراع الذي شهده مجلس النواب، والتظاهرات التي استثمرها السيد مقتدى الصدر لإعادة رسم علاقات القوة، واقتحام مقار الأحزاب والمليشيات، وصولا إلى التهديد بالقتال، نتيجة حتمية لهذا الصراع أكثر منه اختلافا في وجهات نظر متعلقة بالإصلاح.
٭ كاتب عراقي
القدس العربي
التسميات:

إرسال تعليق

Author Name

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.