دفن المسلمون في أمريكا الملاكم الشهير محمد علي يوم الجمعة 10 حزيران (يونيو) 2016 في احتفال مهيب وجنازة كبيرة شهدها الملايين في العالم، واحتفل المشاركون بشخصية أمريكية جميلة وأشهر أمريكي ومسلم في العالم. ومنحت جنازة الملاكم «الأعظم» المسلمين مساحة للتنفس والشعور بالفخر، فهم في حالة حصار منذ فترة طويلة، فلا تكاد الصحف وقنوات التلفزيون تخلو من تقارير عن إخراج مسلمات من مقهى لأن صاحبها لم يرتح لمحجبات يتناولن القهوة فيها. فيما أخرج مسافرون مسلمون من طائرات لأن أحد الركاب لم يعجبه شكل المسلم/المسلمة الجالسة إلى جانبه/جانبها أو لأن أحدهم سمع مسافرا يقول «إن شاء الله». بل وتعرض باحث إيطالي للمساءلة لأنه كان يحضر لورقة عمل في الرياضيات فشك الجالس بجانبه أن الرجل يعد رموزا لعملية إرهابية. والأمثلة كثيرة عن حالة الخوف والرهاب التي تعيشها أمريكا اليوم، وهي إن لم تكن جديدة ونتاج مرحلة ما بعد هجمات إيلول (سبتمبر) 2011 إلا انها زادت في السنة الأخيرة مع بدء أقبح حملة رئاسية في تاريخ أمريكا المعاصر وصعود الشعبوي اليميني رجل الأعمال دونالد ترامب الذي فاز في الانتخابات التمهيدية لحزبه الجمهوري وهو الآن المرشح المفترض له في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) المقبلة. ولم يتورع ترامب عن الإساءة للمسلمين والمهاجرين والهسبانو، ولم يسلم القضاة من أصول مسلمة ومكسيكية من نقده ودعا لمنع مسلمي العالم دخول الولايات المتحدة وبناء جدار بين الولايات المتحدة والمكسيك. 
وفي هذا الجو المحموم الذي عاشه مسلمو الولايات المتحدة كانت لحظة محمد علي في وفاته وتأبينه فارقة ومهمة للإحتفال والفخر، إلا أن الفرحة لم تستمر، فجاء عمر صديق متين، الأمريكي الأفغاني الأصل، المولود في نيويورك وعكر صفو اللحظة وجو رمضان عندما قام في 12 حزيران (يونيو) 2016 باستهداف نادي «بالس» وهو ناد معروف للمثليين في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا وأطلق النار على محتفلين فيه وأردى 49 شخصا منهم قبل أن تتمكن الشرطة من ملاحقته وقتله. وكان يمكن أن تكون جريمة القتل أمريكية باقتدار، لأن جرائم القتل الجماعي معروفة ومرتبطة بانتشار السلاح وسهولة الحصول عليه. لكن متين قبل مقتله اتصل برقم الطوارئ (911) وأعلن ولاءه لـ «الخليفة» الغائب في مكان ما من الرقة أو الموصل أبو بكر البغدادي زعيم ما تطلق على نفسها الدولة الإسلامية في العراق والشام. ومن هنا تغيرت الرواية ولم تعد الجريمة متعلقة بالغضب أو بكراهية مجتمع المثليين «لزبيانز غيز بايسيكسول وترانزسيكسول» (أل جي بي تي) وتحولت إلى «الإرهاب الإسلامي» ونصح سفير إسرائيلي سابق في واشنطن ترامب باستغلال المسألة والتركيز على «إسم عمر صديق المسلم، وهذا سيغير السباق الرئاسي». صحيح أن مايكل أورن قال لاحقا إنه لم يكن بحاجة لنصح ترامب لأنه كان سيفعل هذا بنفسه، لكن الطريقة التي استغل بها المرشح الجمهوري المفترض جريمة قتل أدت إلى نقد عام من الطبقة السياسية في داخل حزبه وواشنطن. فقد هنأ نفسه في تغريدة على تويتر لأنه توقع حادثا كهذا وجدد يوم الاثنين دعوته لمنع دخول أبناء الدول التي تعاني من أزمات وحروب أهلية ـ مسلمة ـ الولايات المتحدة وهاجم الرئيس باراك أوباما الذي اتهمه بعدم تسمية الأشياء بأسمائها «الإرهاب الإسلامي المتطرف» ودعاه للإستقالة وفي هذا تلميح لتواطؤ القائد الأعلى للقوات المسلحة مع الإرهاب- أي الخيانة وعقوبتها الإعدام. وهي تهمة قبيحة لرئيس لا يزال في منصبه، ولم يرعو ترامب فهذه هي لحظته. فقد استفاد طوال حملته الانتخابية من هجمات تنظيم الدولة الإسلامية سواء في باريس وبروكسل وسان بيرنادينو- كاليفورنيا وخاطب القطاع الخائف من الأمريكيين وكان بالضرورة يعبر عن مواقفهم، والذين يشعرون بالخيبة من الطبقة السياسية في واشنطن المنفصلة عن الواقع. ولهذا رأى روجر كوهين في «نيويورك تايمز»(13/6/2016) أن المذبحة في أورلاندو تزامنت مع أزمة في أوروبا وأمريكا انتجت استعدادا للقفز نحو المجهول. ويمثل خطاب الكراهية الذي يقدمه اليمين ردا لهز الأوضاع. وقارب كوهين بين فعل متين والقومي الصربي- البوسنوي الذي أشعلت رصاصاته نار الحرب العالمية الأولى قبل أكثر من مئة عام. فرصاصات متين أعطت إمكانية لوصول ترامب إلى البيت الأبيض واليمين المتطرف في فرنسا لقصر الأليزيه وأخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وقد يكون السيناريو مبالغا فيه إلا أننا لا نستطيع التقليل من تداعيات الجريمة التي غابت تفاصيلها في الخطاب الغوغائي الديماغوغي الذي أطلقه ترامب. فلم يلتفت أحد إلى أن متين نفسه مختل نفسيا، ولم يسأل إلا قلة عن السبب الذي مكن متين من شراء سلاح متقدم مصمم للقتل بدون مساءلة مع أنه تعرض مرتين لتحقيق من مكتب التحقيقات الفدرالي «أف بي أي» عام 2013 و 2014 الأولى بعد شكوى زميل له في المؤسسة الأمنية الكبيرة التي كان يعمل فيها من أن متين تحدث عن تعاطف مع الإرهابيين. وفي الثانية عندما حققت الشرطة عن صلته بانتحاري أمريكي نفذ عملية نيابة عن جبهة النصرة في سوريا. ورغم تأكيد الرئيس الأمريكي أوباما على أن متين استطاع تنفيذ عمليته بسبب قوانين حيازة السلاح المتساهلة في الولايات المتحدة وجدد دعوته لنقاش جدي وجديد حول الموضوع، والمعروف أن لوبي السلاح من أهم اللوبيات وهو مؤيد لترامب.

الإرهاب في البيت

ولم يلتفت أحد إلى ان الإرهاب قد يبدأ من البيت كما لاحظت مارغريت تالبوت في «نيوركر» (16/6/2016) ولفتت الإنتباه لدراسة كشفت عن علاقة العنف المنزلي بالمذابح الجماعية (حسب تعريف أف بي أي كل جريمة يقتل فيها أكثر من أربعة فهي مذبحة جماعية) وذكرت القارئ بالمزاعم التي ساقتها مطلقة متين الأولى سيتورا يوسفي التي قالت إنه لم يكن شخصا سويا وكان يضربها لأتفه الأسباب «لأن الغسيل لم ينته أو شيء من هذا القبيل» وقالت إنه كان يتحول من مزاج الفرح للعنف وكان يكره المثليين. فالجريمة في سياقها تظل جريمة كراهية قام بها مختل أو هكذا نفترض باستهداف مجتمع من المثليين مدفوعا بالكراهية لهم، مع وجود شواهد عن تردده على مسرح الجريمة أكثر من مرة وتعاطيه المخدرات. ولم تؤد هذه الشواهد لحرف النقاش عن الإسلام وفيما إن كان هجوم أورلاندو تعبيرا عن «إرهاب إسلامي متطرف» حسب ترامب أم «عنف متطرف» حسب البيت الأبيض وأوباما. وفضل اليمين الأمريكي التركيز على الإسلام والتلاعب بموضوع الإسلاموفوبيا.

خطاب متهور

ونقل ديفيد إغناطيوس في «واشنطن بوست» (13/6/2016) عن مسؤولين أمنيين قولهم إن خطاب ترامب المتهور هو أحسن هدية لتنظيم الدولة الإسلامية الذي يتهاوى في معاقله وتصريحات مثيرة للكراهية (إسلاموفوبيا) يطلقها ترامب وزملاؤه الأوروبيون تعطيه صارية النجاة وتقوي من مزاعم الجهاديين الذين يقدمون أنفسهم كـ»فرسان» يتصدون لتعصب الغرب. واتهم إغناطيوس ترامب بعدم فهم الخطر الحقيقي لتصريحاته التي لا تشجب أفعالا إرهابية يقوم بها أشخاص مثل متين أو تطالب بإجراءات أمنية مشددة، بل يجمع كل المسلمين في سلة. فماذا سيحدث عندما يتوصل المسلمون الأمريكيون أنهم مستهدفون كجماعة؟ وهو ما لا يفهمه المرشح الجمهوري الذي يرمي أعواد الثقاب في حوض من الكاز ويدعو في الوقت نفسه المسلمين للتعاون مع قوات الأمن، إلا أنه لا يفهم أن هجماته ضدهم جعلت إمكانية التعاون صعبة.
وما جرى هو تسييس شنيع لجريمة أمريكية ارتكبها أمريكي وبسلاح أمريكي وهو ما لاحظه تشارلس أم بلو في «نيويورك تايمز» (16/6/2016) حيث قال إن هجوم أورلاندو تم على يد وحش جبان وهو «وحشنا». «فالقاتل عمر متين، 29 عاما ولد ونشأ في الولايات المتحدة وقتل أمريكيين مستخدما بندقية أمريكية الصنع اشتراها بطريقة قانونية من محل أمريكي لبيع البنادق، رغم تعرضه مرتين لتحقيق على يد أف بي أي لمظاهر قلق تتعلق بالإرهاب». ويرى بلو أهمية في حرمان القاتل من الإنتباه الذي كان يرغب به وتركيز العدسات عليه أكثر من الضحايا الذين قتلهم وعائلاتهم. ومن المهم أيضا فهم الأجهزة التي سمحت بوقوع هذه الجريمة التي تظل أمريكية بكل المقاييس. وأضاف أن من التهور بمكان أن يتم حرف الإنتباه عن جريمة قتل إلى الجانب السياسي. فقد سيس القتل في أورلاندو حتى قبل ان يجف دم الضحايا. ويرى أن المهمة الآن هي التأكيد على عقد نقاش مخلص وحقيقي ومنعه من التحول إلى تأكيد المواجهة أو تشويه الحقائق. ويضيف «هذا فعل إرهابي محلي وجريمة كراهية ولكنها جريمتنا وتحتاج منا النظر في سياستنا- الخارجية وسياسة الحرب ومكافحة الإرهاب وسياسة حيازة السلاح، كما تحتاج منا مواجهة السموم الثقافية بما في ذلك الثقافة السياسية المسمومة والثقافة الذكورية المسمومة وتلك المعادية لمجتمع أل جي بي تي».

هل كان مثليا؟

وفي هذا السياق أشار إلى تصرفات متين قبل العملية: زيارته للنادي عدة مرات خلال السنين الماضية واحتفاظه بتطبيقات على هاتفه المحمول يحتفظ بها عادة الرجال الذين يريدون علاقات مع رجال آخرين. ويتساءل إن كان استهداف متين لهذا المجتمع يعكس حالته الشخصية وأزمته الخاصة. وتشير الدراسات إلى أن الشخص الكاره يحاول أحيانا التصرف بطريقة يقوم فيها بكبت مشاعره نحو الجنس نفسه. فإسكات الرغبة الجنسية في الشخص المثلي هي محاولة لكبتها في داخل الشخص القامع لنفسه وشهواته، وربما كان كل هذا صحيحا إلا أن المهم هو أنه قام باستهداف المثليين في مجتمعهم الآمن وفي ليلة احتفالهم «الليلة اللاتينية». ويعترف الكاتب ان المجتمع وإن كان لا يعامل المثليين بطريقة بربرية إلا أن الإحتقار موجود لكل شخص لا يتناسب مع قانون الطبيعة ـ رجل وامرأة ـ باعتبار ما يقوم بعمله خرق لتعاليم الله. وحتى يتغير هذا الموقف فسيظل مجتمع المثليين خائفا و«نعطي غطاء للمعارضات الظلامية يعبر عنها أشخاص مثل متين». ودعا الكاتب أيضا للنقاش حول حيازة السلاح من خلال تقييد أنواعه في أيدي الناس، فالسلاح المخصص للحرب يجب أن يظل في أيدي الجنود لا المواطنين. ويؤكد بلو في نهاية مقاله على ثمن السياسة الخارجية الأمريكية، سواء أكان هذا من خلال منع أو قصف المسلمين. ومحاولة مواجهة تهديد يشعل تهديدا آخر. والمجتمع المسلم الأمريكي مكون في غالبيته من أناس محبين للسلام، وكغيره من المجتمعات يحتوي على أشخاص بعقول ضعيفة تميل نحو العنف. والفرق اليوم هو أن هناك جماعات من الخارج تحاول التأثيرعليهم ودفعهم نحو التشدد ويجب أن نحاول منع هذه الجهود لا مساعدتها. وكان عمر متين وحش صنع في أمريكا وعلى المجتمع أن لا يسمح بظهور أمثاله. في النهاية تمثل مذبحة أورلاندو كما تقول مجلة «إيكونوميست» (18/6/2016) امتحانا لترامب فشل فيه. فهو لم يقم مثل جورج دبليو بوش بعد هجمات 9/11 بزيارة مسجد واشنطن لتطمين المسلمين الأمريكيين بل وأشعل ترامب الحرب. رغم أن المسلمين الأمريكيين على حد تعبير المجلة مبدعون ومتميزون ومتعلمون ومندمجون باستثناء الموجة الأخيرة من الصوماليين. وهناك تعاون بين المسجد و«أف بي أي» حيث أثمر التعاون عن إحباط العديد من المؤامرات الإرهابية. كما أن لديهم قابلية أعلى من المسيحيين الإيفانجيلكيين لدعم زواج المثليين كما ترى المجلة.
التسميات:

إرسال تعليق

Author Name

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.